الطريقة التي نرى بها العالم هي التي تحدد الطريقة التي نتصرف بها فيه. على امتداد معظم التاريخ البشري، حملنا في داخلنا قناعة راسخة بأن كل شيء نادر وشحيح: الطعام شحيح، الأرض شحيحة، الماء شحيح، والطاقة شحيحة. فإذا كانت الحياة مجرد صراع دائم على موارد محدودة، فإن كل مكسبٍ لا بد أن يقابله خسارةٌ عند شخص آخر. هذه الفرضية البسيطة هي التي شكّلت حضاراتٍ بأكملها. فهي تفسر لماذا تُشن الحروب، ولماذا تتوسع الإمبراطوريات، ولماذا تحدّ العائلات من عدد أبنائها، ولماذا يصبح السرقة والاستغلال أمرًا مألوفًا. فعندما يُدرَّب العقل على الاعتقاد بأن العالم لعبةٌ صفرية، يصبح كل إنسانٍ منافسًا، وكل مولودٍ عبئًا إضافيًا، وكل مجتمعٍ مجاور تهديدًا محتملاً. عندئذٍ تتحول الندرة من مجرد حالةٍ مادية إلى عدسةٍ تلوّن كل إدراك، فتدفع البشرية إلى دورات متكررة من الخوف والتدمير.
لكن المفارقة أن هذه العقلية القائمة على الندرة ليست متجذّرة بالكامل في الواقع، بل في التصوّر. فالأرض تستقبل من طاقة الشمس في ساعةٍ واحدة ما يفوق استهلاك البشرية في عامٍ كامل. والأفكار لا تنقص حين تُشارك؛ بل تتضاعف. والمعرفة لا تُستهلك حين تُستخدم؛ بل تتوسع. والتعاون لا يستنزف الموارد؛ بل يخلق موارد جديدة عبر التآزر. وإذا ابتعدنا بما يكفي لنرى الصورة الكاملة، فسندرك أننا لا نعيش في كونٍ من الندرة، بل في كونٍ يفيض بالوفرة. وما يقيّدنا ليس خامات الوجود، بل قدرتنا على النظر إليها بطريقةٍ مختلفة، وتنظيم أنفسنا حولها، واستثمار أعمارنا المحدودة بحكمة.
وهنا يظهر جوهر الحقيقة الذي يخترق الأوهام كلها: الشيء الوحيد النادر بحق هو الزمن الإنساني. فكل فرد لا يُمنح سوى بضعة عقود، وحتى لو امتد بقاء نوعنا آلاف السنين، فإن الأفق الزمني للحضارة ذاتها يظل محدودًا ما لم نعمل بوعي على تمديده. وحين نفهم أن الزمن هو الندرة الجوهرية، ينقلب كل شيء. النتيجة المنطقية ليست أن نحارب أو نكدّس، بل أن نتعاون. فبدلاً من التنافس على أجزاءٍ ضيقة من كعكة صغيرة، نبدأ بصناعة كعكاتٍ أكبر معًا. وبدلاً من الخوف من الحياة الجديدة، نصمّم مجتمعات قادرة على احتضانها ورعايتها. وبدلاً من إحراق الوقت والطاقة في الحروب، نوجّه هذا الجهد نفسه إلى مواجهة المخاطر الوجودية وتوسيع حدود بقاء الإنسان.
إن عقلية الندرة تدفعنا نحو التدمير الذاتي لأنها تحبسنا في أفق قصير المدى. فهي تقنعنا بأن البقاء لا يكون إلا عبر التفوق على الآخرين، حتى لو أدّى ذلك في النهاية إلى تقويض الشروط الجماعية اللازمة للبقاء ذاته. أما عقلية الوفرة، فتلزمنا بأن نواجه الصورة الأوسع: أننا ركاب على كوكب هش، وأن أعمارنا قصيرة للغاية، وأن الطريقة الوحيدة لتمديد زمننا هي أن نجمع ذكاءنا، وإبداعنا، وتعاطفنا. فبقاء جنسنا يعتمد أقل على غزو بعضنا البعض وأكثر على غزو الوهم الذي اسمه "الندرة".
فإن أصررنا على رؤية كل شيءٍ نادر، فسوف نستمر في تدمير أنفسنا. وإن تعلّمنا أن ندرك أن كل ما هو جوهري وفير ما عدا الزمن، عندها فقط نملك فرصةً لا للبقاء وحسب، بل للازدهار. إن الاختيار بين هذين المنظورين سيحدد ما إذا كانت البشرية ستنطفئ في صراعاتها، أم ستدوم عبر تعاونها.
#nostrarabia
#bitcoin